نزار قباني : منذ أيام النبي العربي .. والشام تتكلم عربي

شمس الدين العجلاني

لملمت من كل بساتين العالم ورداً وقرنفلاً وأشياء غريبة وجميلة وطوقتها بالياسمين الدمشقي وحملتها بين أضلعي وقصدت نزار قباني أدق أبواب العشاق أسأل عنه .. أدق نوافذ المحبين اسأل عنه أدق جفون الساهرين أسأل عنه...
أتسلق أحلامي وأصعد إلى النجوم اسأل عنه... وكان دائماً معي عند كل باب طرقته ونافذة سألتها... كان معي كلما نظرت إلى السماء فقلت :

*ياشاعراً هز العمائم واتهم بالخروج عن المألوف ترى من أنت ...؟!

** ولدت في 21 آذار (مارس) 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة , أبي توفيق القباني كان واحداً من أولئك الرجال الذين كانوا يمولون الحركة الوطنية ويقودونها من حوانيتهم ومنازلهم أنا من حي مئذنة الشحم.
كنت الولد الثاني بين أربعة صبيان وبنت هم المعتز ورشيد وصباح وهيفاء , أسرتنا من الأسر الدمشقية المتوسطة الحال لم يكن أبي غنياً ولم يجمع ثروة , كل مدخوله , من معمل الحلويات الذي كان يملكه , كان ينفق على أعاشتنا وتعليمنا وتمويل حركات المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين , أبي كان يمتهن عملاً آخر غير صناعة الحلويات كان يمتهن صناعة الحرية كان أبي إذن يصنع الحلوى ويصنع الثورة ...
إذا أردت تصنيف أبي , أصنفه دون تردد بين الكادحين لأنه أنفق خمسين عاماً من عمره يستنشق روائح الفحم الحجري ,ويتوسد أكياس السكر وألواح خشب السحاحير ...كان يعود إلينا من عمله في زقاق (معاوية) كل مساء تحت مياه المزاريب الشتائية كأنه سفينة مثقوبة كلما قرأت كلام من يتهمونني بالبورجوازية والانتماء إلى الطبقة المرفهة والسلالات ذات الدم الأزرق... أي طبقة وأي دم أزرق ... هذا الذي يتحدثون عنه ؟! إن دمي ليس ملكياً ولاشاهانياً وإنما هو دم عادي كدم آلاف الأسر الدمشقية الطيبة التي كانت تكسب رزقها بالشرف والاستقامة والخوف من الله...

*ما هو تحصيلك الجامعي وأين درست ....؟!

**مدرستي الأولى هي الكلية العلمية الوطنية في دمشق دخلت إليها في السابعة من عمري وخرجت في الثامنة عشر أحمل شهادة البكالوريا الأدبي (القسم الأدبي) ومنها انتقلت إلى مدرسة التجهيز حيث حصلت على شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة) وحصلت عام 1945 من الجامعة السورية في دمشق على الليسانس في الحقوق لم أقبل على دراسة القانون مختاراً وإنما درسته لأنه مفتاح عملي إلى المستقبل وأتقن اللغة الفرنسية التي تعلمتها أثناء دراستي في الكلية العلمية الوطنية واللغة الإنكليزية أثناء عملي في السفارة السورية في لندن (1952-1955) واللغة الإسبانية أثناء عملي الدبلوماسي في مدريد (1962-1966).
ولم أمارس المحاماة ولم أترافع في قضية قانونية واحدة القضية الوحيدة التي ترافعت عنها ولاتزال هي قضية الجمال ... والبريء الوحيد الذي دافعت عنه هو الشعر...

*هل تحدثنا عن البدايات الشعرية ومن هم الذين تأثرت بهم...

**إنه لمن نعمة الله علي وعلى شعري معاً, أن معلم الأدب الأول الذي تتلمذت عليه, وكان شاعراً من أرق وأعذب شعراء الشام هو الأستاذ خليل مردم بيك هذا الرجل ربطني بالشعر منذ اللحظة الأولى وحين أملى علينا أول درس من دروس الأدب مثل هذا الكلام المصقول كسبيكة الذهب:
إن التي زعمت فؤادك ملها خلقت هواك كما خلقت هوى لها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي ما كان أكثرها لنا .. وأقلها
ومن حسن حظي أنني كنت من بين التلاميذ الذين تعهدهم هذا الشاعر المفرط في حساسيته الشعرية, إنني أدين لخليل مردم بيك , بهذا المخزون الشعري الراقي الذي تركه على طبقات عقلي الباطن ... أضيف إلى هذه التأثيرات الأولى قراءاتي اللبنانية في الأربعينات ضمن مفكرة أمين نخلة الريفية وبساتين بشارة الخوري والياس ابي شبكة وصلاح ليكي وسعيد عقل ويوسف غصوب وفولكلوريات ميشيل طراد وخزفيات الياس خليل زخريا تعلمت الخروج من البحر الشعري الذي لايتحرك .. إلى البحر الكبير ... بكل احتمالاته ومجاهيله ..
*و أول بيت شعر نظمته:

** حين كانت طيور النورس تلمس الزبد الأبيض عن أغصان السفينة المبحرة من بيروت إلى ايطاليا في صيف 1939 وفيما كان رفاق الرحلة من الطلاب والطالبات يضحكون,ويتشمسون , ويأخذون الصور التذكارية على ظهر السفينة كنت أقف وحدي في مقدمتها ادمدم الكلمة الأولى من أول بيت شعر نظمته في حياتي ... وللمرة الأولى وفي سن السادسة عشرة وبعد رحلة طويلة في البحث عن نفسي نمت شاعراً.

*ومن هي بلقيس بالنسبة إليك ؟!

**في عام 1969 جئت إلى بغداد لألقي قصيدة , وبعد قراءة قصيدتي التقيت بقصيدة ثانية اسمها بلقيس .. وتزوجتها.. وأقمنا . أول مؤسسة وحدوية بين قلبين وبين وطنين.. مؤسستنا الصغيرة كانت رائدة وطليعية وشجاعة 0
وكنا – بلقيس وأنا- نطمح إلى إن نكون مثالاً ونموذجاً لوحدات أخرى قادمة تجعل سماء الوطن أكثر اتساعاً ونجومه أكثر عدداً وبحاره أكثر زرقة وأطفاله يتكاثرون بالملايين كما تتكاثر شقائق النعمان في أول الربيع بين الرطبة وأبي الشامات.

*هل تحدثنا عن ابنك توفيق : :

** في العاشر من شهر آب /1973/ مات ابني توفيق في لندن توقف قلبه عن العمل كما يتوقف قلب طائر النورس عن الضرب , عمره اثنتان وعشرون سنة.. وشعره كلون حقول القمح في تموز , كان توفيق أميراً دمشقياً جميلاً...
كان طويلاً كزرافة , وشفافاً كالدمعة , وعالي الرأس كصواري المراكب.
قبل أن يموت توفيق بأيام قال لأخته هدباء التي سافرت معنا إلى لندن : أتعرفين ياهدباء ماذا يخطر ببالي أن افعل ؟ إنني سآتي بسيارتي من القاهرة وأبيعها في لندن وأعيش الحياة طولاً وعرضاً.
وعندما قالت له هدباء : وإذا انتهت فلوس السيارة فماذا ستفعل ؟ أجابها على الفور : لا تخافي سأموت أنا والسيارة معاً...
وذات يوم كنت أتمشى مع توفيق في اكسفورد ستريت ورأينا في إحدى الواجهات قميصاً أزرق من النوع الذي يعجبه فقلت له: ما رأيك أن نشتريه ؟ قال ولماذا الاستعجال ؟ أن القميص سيبقى ... ولكن هل سأبقى أنا؟
إن رحيل توفيق المفاجئ , أكد لي حقيقة لم أكن أعرفها وهي أن الصغار أشجع منا وأكثر منا قدرة على فهم طبيعة هذه الرحلة التي يسمونها الموت ...

*هل تحدتنا عن والدتك أم معتز :

أما أمي فكانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب كانت تعتبرني ولدها المفضل وتخصني دون سائر اخوتي بالطيبات وتلبى مطالبي الطفولية بلا شكوى ولاتزمر . بيت أمي كان معقلاً للحركة الوطنية عام 1935 وفي باحة دارنا الفسيحة كان يلتقي قادة الحركة السياسية السورية بالجماهير ومنها كانت تنطلق المسيرات والتظاهرات ضد الانتداب الفرنسي .
يعرفونها في دمشق باسم ( أم المعتز ) اسمها فائزة .. جاءني هاتف من دمشق يقول لي : أمك ماتت .. لم استوعب الكلمات في البداية .. لم استوعب كيف يموت السمك كله ... في وقت واحد ...

وعن الشام يقول نزار قباني :
..منذ أيام النبي العربي .. والشام تتكلم عربي ومنذ أيام معاوية ، وهشام ومروان .. حتى أيام حافظ الأسد ومنذ موقعة بدر .. حتى موقعة جبل الشيخ .. والشام مواظبة على تكلم اللغة العربية وعلى تعليمها ، إن صناعة دمشق الأساسية هي العروبة

وحين نسأل نزار قباني عن سورية ومواقفها القومية يختصر كل تاريخ سورية قائلا :

هكذا خلق الله السوريين
كل رغيف يخبزونه يقتسمونه مع العرب
وكل شجرة يزرعونها تأكل من ثمرها العرب
وكل حجر يحملونه على أكتافهم هو لتعمير
بيت العرب
اشتهرت بكونك شاعر المرأة ؟ ترى ما هو موقفك من حرب تشرين :

قبل السادس من تشرين / 1973 / كانت صورتي مشوشة وغائمة ، وقبيحة
واليوم / 6 تشرين / يبدا عمري
لا تستغربوا كلامي فأنا ولدت
تحت الطوافات والجسور العائمة
وخرجت من أسنان المجنزرات السورية
التي كانت تقرقش الصخور في مرتفعات الجولان
.ويتابع شاعرنا التغني بأمجاد تشرين وبالتضامن العربي حين استعمل العرب سلاح النفط في المعركة فيقول :
للمرة الأولى ..اشتري زجاجة بترول واهديها لحبيبتي
وتشكرني لأنني أعدت إليها الثقة بأنوثتها
أهديتها عطرها المفضل : النفط
حبيبتي ، بعد حرب 6 تشرين تفضل
أن تستعمل عطرا قوميا

ترى هل تجول شاعرنا في شوارع دمشق اثناء حرب تشرين وشاهد القصف الاسرائيلي لشوارع دمشق وخاصة شارع
( ابو رمانة ) :

تجولت في كل شوارع العشاق ولكن
شارع أبو رمانة في مدينة دمشق
بأبنيته المهدمة وشرفه المتساقطة
واصص أزهاره المحترقة ، واشجاره
التي حصدتها الصواريخ لقد اصبح اهم شارع
في العالم لان الكبرياء والبطولة
اصبحتا من بين سكانه


.وبعد تشرين التحرير تحاول آلة العدوان والدمار الاستمرار في الاعتداء على ارض سورية فيقف الجندي السوري شامخا مدافعا عن بوابة العروبة عن دمشق الشام وتروي دماء جنودنا البواسل ارض الوطن فيقول نزار :

82 يوما والشام تكتب إلياذتها العظيمة على الصخر
والثلج بحروف كبيرة
82 يوما والشام تسدد وحدها كل ديون العالم العربي المستحقة منذ
عام 1967 وعام 1948 ولا تطلب
من المديونين جزاء ولا شكورا
لقد حاربت الشام ، واستحقت ثواب حربها
هذه هي سورية
كانت في الحرب أستاذة
تتكلم بالعربي الفصيح

ولملمت أوراقي ثانية .. وجمعت الورد والقرنفل والياسمين ونثرتها في الأفق البعيد بين النجوم وكلمات نزار .. فكانت الوردة تنبت وردة ,والقرنفل ينبت قرنفل, والياسمين الدمشقي يملئ السماء ,والغيوم تمطر كلمات نزار قباني على تراب الوطن.
هذا اللقاء لم يحدث مع الشاعر الكبير نزار قباني وإنما الذي حدث أنني غصت في أعماق ما كتب نزار قباني لأجد السؤال والجواب فكان هذا اللقاء الذي حدث ...

© By WebTix